فى فرنسا تراجع رئيسهم ماكرون استجابة لمطالب الجماهير ومظاهراتها ولم يتهمهم بالخيانة أو العمالة، وحلت الأزمة وفازت فرنسا فى امتحان الحرية.. لماذا؟
لأنه فى الدول الديموقراطية لايعترفون إلا بهيبة الشعوب، أما هيبة الدولة فتتبلور فى آ الانصياع لرغبات الشعب وأوامره والتراجع بلا أدنى إحساس بالإهانة اذا تعارضت تلك القرارات مع مطالبه، وفى تلك الدول أيضا لا يعرفون عبارات مثل "لا أحد يلوى ذراع الحكومة"، و"لازم نوريهم العين الحمرا"، فهم الذين يخافون من عيون الجماهير عندما تحمر لهم ويعملون لها ألف حساب، وطبعا ليس فى قاموسهم اتهامات موجهة للمعارضين من عينة "خونة وعملاء ومنفذين لأجندات خارجية" لأن نظامهم يسمح بكل ما سبق، فالمعارضة جزء من نظام الحكم وقد تصل غدا إلى كرسى الرئاسة، أما المظاهرات فحق دستوري مثل حرية التعبير تتكفل بحمايته والحفاظ عليه!.
هذه أساسا دولة مؤسسات لاتتوغل إحداها على البقية، أوتتحكم فيها وتوجهها وتصدر تشريعات غير دستورية تسمح بهذا التغول، ومن العجب عندهم أن هناك دستور يكتب بكل حسن نية الشعب وينفذ وتتم صيانته وحمايته ولا يعتدى عليه، لتأبيد بقاء الحكام على كراسيهم لآخر نفس آ فيهم وآخر نقطة دماء من عروق شعوبهم!!
فى تلك الدول العجيبة الشعب هو الأصل والأساس، يعمل الجميع فى خدمته كموظفين عموميين، وليس العكس، لأن وصولهم لكرسى الحكم مرتبط به، يأتى الحاكم ويرحل بارادته، فلا يعرفون التزوير لأن هناك آليات تحميها، فالمعارضة جزء أساسى من العملية السياسية تنتقل بسلاسة إلى كرسى الحكم وتعود للمعارضة عندما تفشل وتسقطها الجماهير، لاتعتبر الرغبة فى الوصول لكرسى الرئاسة جريمة يُعاقب عليها ولا يتهم الساعون إليها بالخيانة فيسجنون أو يرهبون أو يخفون قسريا حتى يظهر لهم صاحب، وغالبا لا يظهر، لأن رأس الذئب الطائر قد جعلهم يحفظون الدرس جيدا!!
آ ومن الدروس المستفادة من التجربة الفرنسية، بعدما تراجع الرئيس عن قرارته برفع سعر الوقود، أنه رغم جنوح المظاهرات إلى العنف وسلب وحرق كثير من المتاجر والمطاعم فى شارع الشانزليزيه وغيره من المعالم السياحية، فإن ذلك لم يمنع الحكومة من أن تتفاوض لإيجاد حل لأزمة، دون أن تشعر أن ذلك يمس سيادتها، أو قد يشجع أطرافا اخرى على الاحتجاج، فتعاند ولا تستجيب حتى لا يتجرأ عليها الرعاع، وطبعا هذا ليس اسم الفرنسيين لدى حكومتهم، فقط فى العلم الثالث ينعتونهم بذلك اللفظ المهين!
ذلك نهج لايعرفونه ولا تسمح به الجماهير الواعية والتى تعرف قوتها وقدرها متمثلا فى حقوق حصلت عليها بعد تاريخ من التضحيات، استقرت فى وعى الجميع، ولا سبيل إلى التراجع عنها، لأنهم يملكون إرادتهم وإن انحرف الرئيس يطاح به وإذا أخل بالعقد الاجتماعى والسياسى، فحسابه بمقتضى القانون والدستور، عسير ياولدى!
أما فى الدول القمعية، فلا ينصاع الحاكم أبدا لرغبة الشعب في أى آ مطالب، إنما هى نفحات من الحاكم وصدقة تتنزل من أعلى إلى أسفل، وكله من فيض كرمه وطبعا لا تهزه وقفات ولا مظاهرات، فالهراوة حاضرة، ولا خوف من الإطاحة به، فالمجالس التشريعي على نقاوة عينه و قوة السلاح تحميه.آ
فى الدول المحظوظة لا ولاء إلا للشعب، فبيده استمرار الحاكم أو اسقاطه فى أقرب انتخابات مبكرة، إذا ما غدر بالشعب أو فشل فى تحقيق آ مصالحه، آ فلا حاجة إلى الاحتكام للسلاح أو فرض الاحكام العرفية، إنما هى السياسة فى أجل صورها، والشعوب فى أقصى درجات تمكنها هى التى تحل الأزمات، هكذا بمنتهى البساطة!
---------------------
بقلم: وفاء الشيشيني
آ